”أنت هنا في حضرة أعراس انتهت“
من تلك المجموعة الأدبية الساحرة، المسماة، مجموعة كركوك، لم أكن قد رأيت قبل مغادرتي العراق في نهاية السبعينيات، إلا فاضل العزاوي عند بُعد، أثناء أمسية أدبية في اتحاد الأدباء العراقيين، أواسط السبعينيات، فقد كنتُ أقرأ لهم وأتابعهم، باعتبارهم أصواتا أدبية متفردة، على صعيد الشعر والنثر. وحينما وجدت نفسي في ألمانيا الغربية، كانوا هم قد توزعوا، حالهم حال الأصوات الأدبية العراقية الحرّة، في بلدان العالم: مؤيد الراوي وفاضل العزاوي ببرلين الشرقية، سركون بولص في سان فرانسيسكو بأميركا، أنور الغساني في كوستاريكا، صلاح فائق في لندن والأب يوسف سعيد في السويد، أما جليل القيسي ويوسف الحيدري فقد اعتكفا في كركوك.
أواسط الثمانينيات التقينا لأول مرة في مطعم تركي ببرلين الغربية: مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، حسين عجة وأنا... فلاحظت انهما يكلمان عاملة المطعم بالتركية... وهذا لقاء تبعته لقاءات أخرى في برلين الشرقية والغربية والموحدة في ما بعد... وأيضاً مشاريع أدبية أغلبها خيالي وهي عادة أجمل المشاريع وأنبلها، لكننا حققنا منها نسبة ضئيلة.. حتى ونحن نلتقي ببرلين عام 2014 ونخطط للمجموعة الأخيرة ولغيرها كنا نحلم، في ما كنت وفخرية، زوجته الشجاعة، نتبادل لفّ السكائر له.
كنتُ قد قرأت مجموعته الأولى «احتمالات الوضوح» (1977). ولكن لم استطع فهمها آنذاك، لكن بعض قصائدها كانت تشدّني مدلولاتها السياسية، التي كان الشاعر أحد المساهمين في تكوينها، رغم التجريدية الشاقة التي تجعل الإحالة صعبة جداً، بل مستحيلة، حتى في ما بعد، حينما ترجمت بعض قصائدها إلى الألمانية، كنتُ قد عانيتُ الأمرّين أثناءها، ولم تسعفني الاستعانة بمؤيد الراوي من أجل فهم أفضل لتفاصيلها، فكان على قصائده أن تبقى أيضاً عصيةً باللغة الألمانية.. لكن لغتهُ اتضحت أكثر وزادت فيها احتمالات التعبير بيسر، وخصوصاً في مجموعته الثانية «ممالك» (2010).. فها هو ألم التجربة وقد تركّز في قصائد طويلة وأخرى قصيرة، ألم التجربة التي نجح الشاعر في لجم تعبيراته السطحية أو الظاهرة. حتى على الصعيد الشخصي، كان لديه نوع من الاستحكام وشدّ الأزر، حتى ونحن نجلس ونستقبل المعزّين بوفاة سركون بولص عام 2007.
كان برنامج قراءاته الشعرية دقيقاً ومركزاً ودون توقف، حتى وهو يتأمل أحجار لعبة الدومينو في المقاهي التركية التي كان يرتادها ببرلين، وتعبيراتهُ التي اتضحت أكثر في مجموعته الشعرية الثالثة والأخيرة «سرد المفرد» والتي خرجت من المطبعة قبل يوم واحد من وفاته (8/10/2015)، وهي تعبيرات شخص يفارق، تعبيرات المعزّي في جنازته، راقدا في تابوته، وحاملاً له مع الآخرين في آن.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكاة وتعاون بين ”جدلية“ وجريدة ”السفير“]